
نِعَمُ اللهِ تَعَالَى لا تُحْصَى
قالت سيدة النساء فاطمة(ع) في خطبتها الشهيرة (وَتَمَامِ مِنَنٍ أَوْلاهَا، جَمّ عَنْ الإِحْصَاءِ عَدَدُهَا، وَنَأَىْ عَنْ الْجَزَاءِ أَمَدُهَا، وَتَفَاوَتَ عَنْ الإِدْرَاكِ أَبَدُهَا، وَنَدَبَهُمْ لاسْتِزَادَتِهَا بِالشُكْرِ لاتِصَالِهَا، وَاْسْتَحْمَدَ إِلَى الخَلائِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَثَنّى بِالنَدْبِ إِلَى أَمْثَالِهَا)
لقد أشرنا في البحوث الماضية إلى حقيقتي الحمد والشكر وإلى الهدف من النطق بهما أمام القوم حيث خلصنا إلى كونها(ع) لم تكن في مقام الحمد والشكر فقط، وإنما – زيادة على ذلك – كانت في مقام التعليم والتوجيه والتنبيه والوعظ والإرشاد والتذكير بالله سبحانه وتعالى، وقد أنمّت تلك العبارات القيمة عن مدى العمق الذي أشارت إليه (سلام الله عليها) بتلك الكلمات الموصوفة بالكمال، والتي أشبهت كلام محمد وعلي (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن الطبيعي بل من الضروري أن توجد هذه المشابهة لأن النبع الذي ينهلون منه واحد، وهو المصدر الأوحد لكل خير في هذه الدنيا، وهو الله تبارك وتعالى، لأنهم نهلوا من معين الرسول الذي لا ينطق عن الهوى وإنما عن الوحي الإلهي.
ثم تابعت الزهراء تقديمها لتلك الخطبة فقالت(وَتَمَامِ مِنَنٍ أَوْلاهَا، جَمّ عَنْ الإِحْصَاءِ عَدَدُهَا، وَنَأَىْ عَنْ الْجَزَاءِ أَمَدُهَا، وَتَفَاوَتَ عَنْ الإِدْرَاكِ أَبَدُهَا، وَنَدَبَهُمْ لاسْتِزَادَتِهَا بِالشُكْرِ لاتِصَالِهَا، وَاْسْتَحْمَدَ إِلَى الخَلائِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَثَنّى بِالنَدْبِ إِلَى أَمْثَالِهَا)
فما أجمل هذه الكلمات التي تشدنا بشوق نحو الله عز وجل، وما أروع سبكها وعذوبتها، وما أعمق دلائلَها وأبعادَها، إنها عبارات نبوية ملائكية أشبهت كلام القرآن من حيث الأسلوب والمضمون، وهي كلمات تستحق منا التأمل والتفكر لننال أغوارها وننهل من خيراتها وينابيعها المتفجرة على شكل الدوام، فلا يمكن أن نحقق منها أهدافنا، ولا نستطيع أن نصل إلى مرادنا إلا من خلال البحث عن أسرارها والدخول إلى خفاياها الكثيرة والغوص في أبحرها العميقة لأنها في الواقع كذلك، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك لوضوح الأمر وظهور الحقيقة وسطوع الحق.
إنها عبارات أطلقتها الزهراء(ع) من القلب، فلم تكتب ولم تتحضر ولم تكوِّن الجمل وتنظمها، بل خرجت إلى الناس بتلك العفوية الطاهرة المسددة من الله تعالى، وراحت تخاطبهم كنهرٍ جارٍ لا يعترض طريقه شيء، فلو جلس أهل الفصاحة والبلاغة وأرباب اللغة وأساطين الفكر والكلام وأمضوا الأيام والأسابيع والأشهر والسنوات في تحضير كلام مشابه لكلامها من حيث السبك والمعنى لما قدروا على ذلك لأن كلامها فوق مستوى كلام البشر ودون مستوى كلام الله، وإنْ كان معناه من الله سبحانه وتعالى.
بهذه الكلمات العظيمة تابعت الزهراء مقدمة كلامها بعد حمد الله وشكره والثناء عليه، ونفس الطريقة التي اتبعناها في بيان المراد من الفقرات الماضية سوف نستعملها هنا، لأن هذه العبارات ليست أقل شأناً من سابقاتها.
فالزهراء(ع) تحمد الله وتشكره على تلك المنن الإلهية التي أولاها ربها إياها، وهذا الشكر على مِنَنه تعالى ليس خاصاً بالنعم التي أولاها إياها، بل هي تشكره على كل مننه لها ولغيرها، فالله تعالى يتحبب إلينا بالنعم، ونحن نبادله بالذنوب، وهذا عيب فينا كبير يجب تصحيحه، ومهما اجتهدنا بالشكر والحمد والثناء والعمل فلن نقدر على تأدية حق الله الذي لا يؤدى تكويناً.
الشيخ علي فقيه


